الأربعاء، 2 ديسمبر 2015

مساء ديميتريو ذات خريف

هي مساءات خريفية تجيء وأخرى تخب في إيقاع مهمل و رتيب ، تنوء فيها أرواحنا من الوجود نحو العدم رويداً رويداً...وتحاصرنا فيها تساؤلات فلسفية لا حصر ، ولا مجيب عنها..
ماذا نفعل في الأرض؟
ما نفعنا هنا أو هناك ؟
هل نجتر ويلات خطيئة آدم ؟
هل نعيش بغية الظفر بجنات الخلود ؟
هل نرضي إلهية الإله ؟
هل يحاول الله دحض نبوءة الملائكة ؟
هل فكرة «الإله» حقيقة أم أسطورة ؟
هل هذة الأديان سماوية فعلاً ؟
وهل.. .. وهل... وهل...
هي مساءات طويلة متشابهة ملتحفة بالمطر، وببردوة المدن الساحلية ...
يحدث فيها أحياناً  أن استقل ميكروباص ، «الباص» لأن المطر بدأ يعزف سيمفونيته الثقيلة ،ولأنه لا شهية لي بالمسير وحيداً على الرصيف .. مطرقاً أتابع تفرعات أفكار سرمدية لا نهاية لها ، أتيه «اضيع» في إحدى تفرعاتها عادةً ، أو أصل إلى حلين متناقضين لفكرة واحدة..
محطة الميكروباص  إسمنتية قديمة ، ومترهلة كسيارة خردة، أنتظر مجيء الباص الذي اعرف جودته سلفاً ،وأعرف ما يحدث داخله أثناء الاِزدحام بالتفصيل الممل.
أجلس وحيداً في مقعد إسمنتي فوقه ثلاثة قطع من الخشب،أضع بجابني حقيبتي اليدوية التي تحوي بداخلها على عشائي لهذا المساء ، وعلى ديوان شعري لشاعرة إيرانية أحببتها قبل عقد من الزمن ولا أزال أحبها (فروغ فرخزاد) « الاسيرة».
سيارات ذاهبات و اِيبات حيث لن أراها ثانية ، منارة وسط حلكة الطريق ، أحبها لما تصدر ذلك الصوت وهي تشرخ مياه المطر من على الإسفلت فوق الرصيف ، أحبها لأنها تذكرني برائحة والدي ، أحبها لانها تحيي ذكرى ذلك الرجل المهيب ،الذي لا يهاب شيئاً و يضرب في الأرض على غير هدى ، يعيش يومه لا أقل ولا أكثر ، ذلك الرجل الذي لم اتعلم منه شيئاً ، أحبها لانها تذكرني بأيام الزمن الجميل ...
يستمر المطر في الهطول باعثاً برسائل مشفرة عن ليلة ماطرة أخرى ، نشيج مياه المطر من فوق قراميد الفيلات الصغيرات ، ومن فوق  أغطية المتاجر  على نحو يبعث بطمأنينة غريبة ،وبدفء لم أشعر به قبلا داخل هذة المدينة .
لطالما أحببت  ذلك الهمس الذي يجيء مع إيقاع النشيج ، بين إرتفاع همسه و وإنخفاضه ، كموسيقى الجاز  حينما الفرونكرباص...
هذا النشيج الذي ياخذني دون استئذان إلى بيت جدتي الذي غادرته منذ ثمانية عشر سنة كاملة ، حينها كنت اجلس باِهتمام وشرود قبالة اِنسياب المطر بين تموجات القصدير ، نحو دلو بلاستيكي أسود ، وضعته جدتي عمداً لأغراض أخرى..
حينها كنت أعيش على إيقاع المطر و حكايات جدتي في ليالي باردة طويلة و كئيبة ،ليالي لم اكن أعي وقتذاك أنها ستكون إحدى أجمل ذكرياتي على الإطلاق ...
يصل الميكروباص،اصعد اليه ، مزدحماً كما كان دائماً ، أتكىء على الزجاج ، بعدما مشطت عيني كل المقاعد الممتلئة ، موسيقى يبثها الراديو عبثاً لماجدة الرومي «كلمات ليست كالكلمات..» مصادفة تدعو إلى الدهشة و التأمل ، أنتشي معها مثلما ينتشي دخان السجائر بين شفاه مخملية ، ومثلما يتصاعد بتثاقل نحو العدم ...
صمت مهيب خيم فجأة ، رجل يناهز السبعين ، يكفف زجاج الميركوباص و يرمي بناظريه نحو الطريق ، فتاة عشرينية تظهر تبرمها من الزحام كل حين ، عبر زفرة أو بنظرة خاطفة نحو ساعة هاتفها .
سائق الباص لا يأبه لأحد ، أصبح آلة بفرط التعود ، بين فينة و أخرى  ينهض شاب  ويعطي مكانه لاِمرأة او فتاة، وهذه الميزة تخص مدن الشمال دون غيرها ،،الحق يقال،، رغم انني لا احب هذة المدن ، ولا أطيق روتينيتها وعبوسة سكانها..
صغيرة ، ببراءة الأطفال تجر حقيبتي من يدي كلما أعدت وضع حزامها على كتفي الأيسر ، وأواجها باِبتسامة تشبه ابتسامة أى رجل حينما يرى طفلة جميلة و شقية .
تنظر نحو عيني مباشرة ، تنبس شفتيها الرقيقتين الصغيرتين  « عمو..» ، لماذا انجذبت إلي وحدي فقط ، ربما لها عم يشبهني يشبهني وهذا ما رجحت ، لكنها اسعدتني ببراءتها وبريق عينيها الخضروتين ، فجاة تشعر بأن ذلك الطفل البعيد يستيقظ بداخلك ، يحثك على الركض ، على القفز دون قيود ، يحثك على الضحك ملء الحياة ،ربما قد تحصر دمعة بمجرد أن يرتعش قلبك بهذاالشعور ...
حملتها عندي وقبلتني دون ان اطلب منها ذلك،  وهذا في حد ذاته إستثناء وتميز سأوجه به نفسي هذة الليلة ، كافأتها بشوكلاتة «سنيكرز» كان  في حقيبتي ، ثم قالت لي : شكراً عمو ،، وذهبت فرحة تُري لوالدتها ما أعطيتها.
وصل المكروباص إلى وجهتي أخيراً ، المطر لا يزال يعزف بسخاء ، نزلت بتثاقل متعمد...
اِعترتني رعشة غريبة فجاة، ورهيبة نوعاً ما و كأنني تركت ذلك الطفل داخل المكروباص ، وكأنني تمنيت أن يستمر الزمان للأبد بجانب تلك الصغيرة ..
يقول غوته..«أيها الزمن توقف، ما أجملك »...ليت الزمان توقف أثناء تلك اللحظة الجميلة ، ليته توقف للأبد..
نظرت نحو نحو المكروباص وهو يسير منارا يكتسح الظلام ، ثم تابعت سيري إلى شقتي التي اِكتريتها بكثير من الحيطة ،المكان الوحيد الذي أرتاح فيه ، المكان الوحيد الذي أشتاق له موازاة مع تلك المدينة التي تختزن عمراً من الذكريات ، أدخل شقتي ، أتهاوى فوق الأريكة ، آه ...ليت الملابس تُنتزع لوحدها، ليت هذا الحذاء يُنتزع لوحده و هذا البنطال أيضاً.
نزعت ملابسي و ارتديت أخرى أريح ، رفعت غشاء النافذة ، لا أعلم كم بقيت شارداً في منظر المطر ينكسر فوق عمود الكهرباء ، يتراقص متثاقلاً كندفات ثلج على ضوء المصابيح ، رشفت بعض أكواب من النبيذ ، لا أدري كم ، لكنها كانت كافية لتجعلني أصل لتلك المرحلة من الصفاء الذهني ومن التصالح مع الذات ، كافية لجعلي أتحمل الحياة على كل حال ...
فكرت في النهوض لأني أعرف تماماً ماذا ينتظرني غداً ، وأنا أهم ناهضاً نظرت بامتغاض من خلف الزجاج إلى عمود الكهرباء ، "اللعنة على مصابيح هذة المدينة ، اللعنة على أضواءها الكئيبة الحمراء التي تثقل النفس وتجثم على القلب ..اللعنة على رطوبة هذه المدينة ..اللعنة على غرفة النوم البعيدة،، اللعنة على المسافات التي تفصلني عن مدينتي الصغيرة ..
اللعنة على "كلمات ليست كالكلمات " لماجدة الرومي ..
اللعنة على نزار القباني نفسه ...اللعنة على خريف من دون خريف من دون خمر ...واللعنة على العشاء "
           ثم غفوت مكاني .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق