الاثنين، 30 نوفمبر 2015

هذيان ديميتريو تحت زخات المطر

إنها السادسة صباحا.. أضواء الشوارع لا تزال مُنارة كئيبة على نحو مبهم، و بداية اليوم الجديد بدأت تظهر أول معالمه في الأفق الرمادي البعيد. المطر ينهمر منذ منتصف الليل و دقائق، إنه أول مطر السنة، أول العناق بين روحي و بين رذاذ الأنسام داخل رحابة هذا المدى الشاسع. قطرات المطر تتشظى فوق أعمدة الكهرباء كاللؤلؤ، و نشيج الأمطار تنساب من جدران المنازل نحو الشوارع الفارغة، باحثة عن مجرى ما تسلكه. إنها أولى ساعات الصباح، و أولى المرات التي أقود سيارة، أقودها على غير هدى، أقود و فقط.. أشعر بالأدرينالين يتدفق داخلي، مثلما تتدفق مشاعر الحب أثناء لقاء حبيب بعد فراق طويل، إنه شعور بذروة الإمتنان، و الإنتصار على شيء ما.. سياط المطر فوق واجهة الزجاج الأمامي يريح الأعصاب، و يصفي الذهن، و يحرر الروح من بوثقة الوجود، يأخذها إلى عوالم أخرى، و أكوان أخرى بعيدة جدا عن هذا المدى الشاسع، شيء يمكن توصيفه باللاوجود، حيث يتوقف الزمان و صخب المكان، حيث يتساوى كل شيء.. لقد جاء المطر أخيرا إذن، لقد جاء كي يحررني من ذائقة فصل الصيف، جاء كي يحررني من ساعاته الطويلة المضجرة و المفرغة من المعنى. جاء كي يبعث الحياة في هذه الجبال الفارهة، و هذه الوهدان المنبسطة التي قتل فيها فصل الصيف كل ضروب الحياة. لا أدري لماذا وحده المطر يجعلني أكثر تشبتا بالحياة، و أكثر تشبتا بتفاصيلها المملة و غير المملة. لا أدري أي حب عميق أشعر به كلما ترنم المطر بهمساته، و كلما صرخ ملء رحابته، لطالما حسدته على نعمة الصراخ، و على نعمة الإرتطام بالتراب و بالزجاج، و على نعم أخرى كالسقوط من الأعلى إلى الأسفل، و عودته إلى قمته مرة أخرى في مدار العام، ليسقط ثم يعود مرة أخرى، و هكذا في سيزيفية منقطعة النظير.. و حسدته أيصا على الحرية التي يبعثها في هذا المدى الشاسع، و على كل العطاء و الزهو الذي يميزه عن كل ما في الوجود. أ ليس المطر شيئا خارجا عن المألوف ؟، أليس تكسيرا لشيء ما؟ ، قوة جبارة تحيي كل شيء، حتى تلك الأرواح المضمرة في دهاليز العدم ؟، أليس هو منبت الشغف و إكسيره الوحيد ؟، أ ليس هو الذي يخاطب الجانب الدافئ في أعماق الإنسان ؟، أ ليس هو الحنين الجميل للأشياء الهاربة في ثنايا الزمن.. كالحب، كالصداقة، كالطفولة، كالحياة...؟ " لا أثق في إمرأة لا تحب المطر.". أي حنين الآن يستيقظ داخلي كالمارد لمدينة إفتقدتها تشبه حضن ولدتي و دلال جدتي، مدينة تشبه أصوات لعب إخوتي، و قبضة والدي.. مدينة "وزان" تلك الفاتنة كالعروس، التي يحميانها جبلين موغلين في السماء، و كأنهما يحميانها من شيء ما، و كأنهما يحرصان على ذكريات سكانها الطيبين، إنها تلك التي أحن إليها و لو كنت أحتسي الشاي معها كل مساء و صباح. هذه المدينة التي تكتنز حيوات من الذكريات الجميلة و الحزينة معا. هي وحدها من تراودني عن نفسي أثناء هطول المطر، مدينة روحانية لا مجال لمقارنتها بمدينة أخرى، تكره روتينية الفصول، و تتخذ في كل فصل من فصول السنة وجها، و لونا آخر مغايرا لبقية الفصول. في فصل الخريف تكون أكثر المدن كآبة و حكمة كعجوز أتعبتها رحلة الوجود، و في فصل الشتاء تكون لوحة تشكيلية لعروس تتجمل بألوان الطبيعة و رمادية السماء، و في فصل الربيع تكون الأم و الحضن، المحبة و الجميلة، العابقة بشذى الورود و رائحة الليمون، و في فصل الصيف تجود بكل ما جادت به الطبيعة من خيرات. إنها وزان التي كانت قبل وقت قريب مدينة تسحر العيون، و تأسر القلوب، ها هي الآن، كإحدى المدن النائية المهجورة، لا شيء يميزها سوى طبيعتها الأزلية، أما الذي أبدعه النظام فيها يضيق في الصدر، و يسمم الروح.. من اللامنطقي أن مدينة تحوي عددا لابأس به من الشعراء، و من الفنانين، و المثقفين، و عدد مبالغ فيه من المناضلين الأشاوش، لا تملك حديقة واحدة ؟، دون أن يخلق هذا مشكلة لشاعر ما، أو يضيق بصدر فنان، أو يوقظ ثائرة مناضل ؟، و لا أبرئ نفسي من كل هذا الهوان، و هذا الخراب الذي ينخر مدينة سميت ببارس الصغيرة إبان الإستعمار الفرنسي، كما جاءنا في الأثر.. أ ليس أمرا محرجا يضعنا في صورة فظيعة أمام ذواتنا الواهمة ؟، أ لسنا جميعا مجرد غوغائيين كلٌ لديه نظريات و فلسفات و رؤى تخرج المدينة من ترديها، بل تخرج العالم من عبثيته، دون أن يتكلف واحد منا بالدفاع تطبيقا عن نظريته و فلسفته و رؤياه ؟، لماذا و لو واحد منا قام بوقفة إحتجاجية أو ــ على أقل تقدير ــ دعى لأجل فتح الحديقة ؟ و التي ستدخل قريبا سنتها الرابعة من الإغلاق بدعوى الإصلاح.. من المؤسف القول إن النظام نجح فعلا حينما جعل النضال وسيلة من وسائل حب الظهور، و من وسائل التعويض عن فراغ نفسي ما، و نجح حينما جعل
                          .البعض يتخذ من النضال فرصة للوصول لوظيفة حقيرة محقرة، كي ينام بعدها نومة اللحود

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق