إنها السادسة صباحا.. أضواء الشوارع لا تزال مُنارة كئيبة على نحو مبهم، و بداية اليوم الجديد بدأت تظهر أول معالمه في الأفق الرمادي البعيد.
المطر ينهمر منذ منتصف الليل و دقائق، إنه أول مطر السنة، أول العناق بين روحي و بين رذاذ الأنسام داخل رحابة هذا المدى الشاسع. قطرات المطر تتشظى فوق أعمدة الكهرباء كاللؤلؤ، و نشيج الأمطار تنساب من جدران المنازل نحو الشوارع الفارغة، باحثة عن مجرى ما تسلكه.
إنها أولى ساعات الصباح، و أولى المرات التي أقود سيارة، أقودها على غير هدى، أقود و فقط.. أشعر بالأدرينالين يتدفق داخلي، مثلما تتدفق مشاعر الحب أثناء لقاء حبيب بعد فراق طويل، إنه شعور بذروة الإمتنان، و الإنتصار على شيء ما.. سياط المطر فوق واجهة الزجاج الأمامي يريح الأعصاب، و يصفي الذهن، و يحرر الروح من بوثقة الوجود، يأخذها إلى عوالم أخرى، و أكوان أخرى بعيدة جدا عن هذا المدى الشاسع، شيء يمكن توصيفه باللاوجود، حيث يتوقف الزمان و صخب المكان، حيث يتساوى كل شيء..
لقد جاء المطر أخيرا إذن، لقد جاء كي يحررني من ذائقة فصل الصيف، جاء كي يحررني من ساعاته الطويلة المضجرة و المفرغة من المعنى. جاء كي يبعث الحياة في هذه الجبال الفارهة، و هذه الوهدان المنبسطة التي قتل فيها فصل الصيف كل ضروب الحياة.
لا أدري لماذا وحده المطر يجعلني أكثر تشبتا بالحياة، و أكثر تشبتا بتفاصيلها المملة و غير المملة.
لا أدري أي حب عميق أشعر به كلما ترنم المطر بهمساته، و كلما صرخ ملء رحابته، لطالما حسدته على نعمة الصراخ، و على نعمة الإرتطام بالتراب و بالزجاج، و على نعم أخرى كالسقوط من الأعلى إلى الأسفل، و عودته إلى قمته مرة أخرى في مدار العام، ليسقط ثم يعود مرة أخرى، و هكذا في سيزيفية منقطعة النظير.. و حسدته أيصا على الحرية التي يبعثها في هذا المدى الشاسع، و على كل العطاء و الزهو الذي يميزه عن كل ما في الوجود.
أ ليس المطر شيئا خارجا عن المألوف ؟، أليس تكسيرا لشيء ما؟ ، قوة جبارة تحيي كل شيء، حتى تلك الأرواح المضمرة في دهاليز العدم ؟، أليس هو منبت الشغف و إكسيره الوحيد ؟، أ ليس هو الذي يخاطب الجانب الدافئ في أعماق الإنسان ؟، أ ليس هو الحنين الجميل للأشياء الهاربة في ثنايا الزمن.. كالحب، كالصداقة، كالطفولة، كالحياة...؟
" لا أثق في إمرأة لا تحب المطر.".
أي حنين الآن يستيقظ داخلي كالمارد لمدينة إفتقدتها تشبه حضن ولدتي و دلال جدتي، مدينة تشبه أصوات لعب إخوتي، و قبضة والدي.. مدينة "وزان" تلك الفاتنة كالعروس، التي يحميانها جبلين موغلين في السماء، و كأنهما يحميانها من شيء ما، و كأنهما يحرصان على ذكريات سكانها الطيبين، إنها تلك التي أحن إليها و لو كنت أحتسي الشاي معها كل مساء و صباح. هذه المدينة التي تكتنز حيوات من الذكريات الجميلة و الحزينة معا. هي وحدها من تراودني عن نفسي أثناء هطول المطر، مدينة روحانية لا مجال لمقارنتها بمدينة أخرى، تكره روتينية الفصول، و تتخذ في كل فصل من فصول السنة وجها، و لونا آخر مغايرا لبقية الفصول.
في فصل الخريف تكون أكثر المدن كآبة و حكمة كعجوز أتعبتها رحلة الوجود، و في فصل الشتاء تكون لوحة تشكيلية لعروس تتجمل بألوان الطبيعة و رمادية السماء، و في فصل الربيع تكون الأم و الحضن، المحبة و الجميلة، العابقة بشذى الورود و رائحة الليمون، و في فصل الصيف تجود بكل ما جادت به الطبيعة من خيرات.
إنها وزان التي كانت قبل وقت قريب مدينة تسحر العيون، و تأسر القلوب، ها هي الآن، كإحدى المدن النائية المهجورة، لا شيء يميزها سوى طبيعتها الأزلية، أما الذي أبدعه النظام فيها يضيق في الصدر، و يسمم الروح..
من اللامنطقي أن مدينة تحوي عددا لابأس به من الشعراء، و من الفنانين، و المثقفين، و عدد مبالغ فيه من المناضلين الأشاوش، لا تملك حديقة واحدة ؟، دون أن يخلق هذا مشكلة لشاعر ما، أو يضيق بصدر فنان، أو يوقظ ثائرة مناضل ؟، و لا أبرئ نفسي من كل هذا الهوان، و هذا الخراب الذي ينخر مدينة سميت ببارس الصغيرة إبان الإستعمار الفرنسي، كما جاءنا في الأثر..
أ ليس أمرا محرجا يضعنا في صورة فظيعة أمام ذواتنا الواهمة ؟، أ لسنا جميعا مجرد غوغائيين كلٌ لديه نظريات و فلسفات و رؤى تخرج المدينة من ترديها، بل تخرج العالم من عبثيته، دون أن يتكلف واحد منا بالدفاع تطبيقا عن نظريته و فلسفته و رؤياه ؟، لماذا و لو واحد منا قام بوقفة إحتجاجية أو ــ على أقل تقدير ــ دعى لأجل فتح الحديقة ؟ و التي ستدخل قريبا سنتها الرابعة من الإغلاق بدعوى الإصلاح..
من المؤسف القول إن النظام نجح فعلا حينما جعل النضال وسيلة من وسائل حب الظهور، و من وسائل التعويض عن فراغ نفسي ما، و نجح حينما جعل
.البعض يتخذ من النضال فرصة للوصول لوظيفة حقيرة محقرة، كي ينام بعدها نومة اللحود
.البعض يتخذ من النضال فرصة للوصول لوظيفة حقيرة محقرة، كي ينام بعدها نومة اللحود
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق