الاثنين، 21 ديسمبر 2015

( نهاية سعيدة )


.
.
الحارة تصطك هذا المساء اِصطكاكا غير مألوف..
في راحة المنزل جثة مراهق واهنة ينخرها الرضوض و قد علت سحنته البدوية شحابة قاتمة كقطعة لحم فاسدة.
والدته تنحب بجانب الحائط المهترئ كالثكالى، مستسلمة تماما لواقع الحال و قد سقط حجابها كرد فعل عنيف لنفسية مكلومة.
فقيه الحارة المليء بالتفاهات زمجر قليلا ثم كفكف لحيته السوداء الكثيفة للحظات بيده اليمنى بحكمة رجل صيني عجوز و بعد نحنحة متعالية فوق جثة المراهق قال و عينيه جاحظتين واثقتين: به مس من الجن الهوائي.. 
أخته الصغيرة تراقب بعينيها اللامعتين وسط حلكة المنزل، تركض بين الحين و الآخر نحو المطبخ تحت إمرة الفقيه كأرنب مذعور لتمده بما قد أمر..
نحيب الوالدة الحزين يتعالى مع تعالي الأصوات داخل المنزل، تصفع خديها المترهلتين بأناملها الرقيقة كأصابع غصين شجرة زيتون و نسوة الحارة يربتن فوق كاهلها متأسفات على هذا المصاب الجلل، و هناك من تطوعت ملء طيبتها لتحاول ضمها إلى صدرها عسى أن تهمد قليلا.
أطفال الحارة أَبالِيس أدمية شاردين لأول مرة في هول المنظر، يقفون كأعمدة كهرباء خشبية أكلها السوس ــ سامحني الله ــ ،ماسكين كسرة خبز حافية تشبه بشرتهم الخشنة و يحشو أضافرهم غير المنمقة سواد كان حصيلة عبث لأيام..
المراهق غاثيا على بطنه يفتح عينين البنيتين بصعوبة بالغة، ثم يغط في نوم قصير و القيء يملأ صدر قميصه الباهت، ثم يستيقظ، ليكمل قيئه و يعود مرة أخرى لنومه و هكذا لساعة و نصف...
المساء كئيب ينذر بموت يلوح في الأفق خافضا ستائره على الحارة الهامشية كشبح مظلم كبير..
الأطفال بدؤوا يمسكون والداتهم من طرف بيجامتهن و يدهم الأخرى لا تزال تمسك كسرة الخبز التي شارفت على الانتهاء.
الوالد الأشوس لم يعد بعد من العمل متثاقلا يحمل ككل مساء كيس بلاستيكي أسود و يجر طرف شاربيه بيده الأخرى في انتشاء فحولي مع نظرات نساء الحارة الهامسة لسحنته الفحولية المحترقة و المثيرة للجدل و لأشياء أخرى..
النساء ترتفع أصوتهن مرددات : لأنه يقصد المقهى لساعتين في الغالب بعد العمل، سيعود بعد دقائق، لابد أن يعود.
الضغط يثقل المنزل و الفقيه يضغط على سباب المراهق متمتما يبصق في الأرض و في صدره بجدية لا تثير ضحك أحد حتى الأطفال الذين لا يشبهون الأطفال..
النساء يهمسن لوالدة المراهق في أذنيها المكشوفة: به سحر.. البنات لم يعدن يخفن شيئا في هذا الوقت، اللهم لطفك..
الفقيه لا يأبه لشيء، إنه منهمك في عمله تماما..
الأخت الصغيرة بدأت تبكي لكنها لم تبارح مكانها خشية أن يطلب الفقيه الحكيم شيئا ما و لا يجدها، ثم يرحل تاركا أخاها الوحيد لرحمة العدم.
الوالدة سقطت كميت إثر نوبة صرع، لكنها استيقظت ــ الحمد لله ــ، بعد عشر دقائق، و الدواء كان قفل كبير مغطًّى بالصَّدأ ..
خطوات متثاقلة تطأ أذن الجميع.. : ها قد عاد.. ها قد عاد..
الفقيه لم يأبه لذلك لأنه تيقن أن بالمراهق جن ترابي و ليس هوائي كما ظن..
يقف الوالد بارد الأعصاب مبتسما تقريبا كأنه على علم بما يقع..
الأخت الصغيرة تقبل يده و تأخذ الكيس لمطبخ المنزل لأسباب عديدة منها نظرات أباليسة الحارة للكيس..
الفقيه منغمس يًظهر جلبابه منه فقط بعدما أن وضع قب جلبابه على رأسه، لأن ربما هذه هي الطريقة المثلى لكسب العراك مع الجن الترابي..
نساء الحارة داهشات ينتظرن ما سيفعل الأب..
إنها الثامنة مساء، الأم يقظ ذهنها بعدما كان شاردا في اللاشيء..
ينظر الوالد نظرة خفيفة للمراهق الذي شحب أكثر لقدوم الوالد.. ثم يقول ببرود رجل سقطت أسنانه و اعتراها السوس في الحارة : "ممممممم الهم سكران...".
كان قوله كالبلسم على الجرح.. انفرجت تجاعيد نساء الحارة لهذا النبأ المفرح، و كدن يقلن لوالدة المراهق التي أففت منبسطة "الحمد لله على سلامتك آحبيبة"..
الفقيه الحكيم شعر بالاِحراج، لكنه أصر على وجود سحر ما و ذهب يقول في صدره " ليلة و شمن ليلة هاذي"..
ثم عم الهدوء في المنزل و الحارة، و عاش الجميع سعيدا للأبد..

الجمعة، 11 ديسمبر 2015

عودة الذكريات

حينـما يتهاطل الـمطـر بغـزارة فـوق قـمم الجـبال الشاهقـة, و فـوق السـهول البعيـدة المنبسطة, يـدب صمـت غـريب داخـل المـنازل فـي الأرجـاء, و لا يظـهر منـها غـير وميـض دافـئ يتسـرب مـن زجـاج النـوافـذ..
حينما تتشظى قطرات المطر فـوق صـومـعات المـساجـد, و فوق عـش اللقـالـق على أعمـدة الكهـربـاء, تـصيـر الشــوارع و الأزقـة فـارغـة مـن أقـدام العـابريـن على نحو يشجـع بالرقص تحت المطر, حينـما تصفر رياح فبراير تـعـود كـل تـلك الـذكـريـات الـجـميلـة بنـكهـة خـاصـة جـدا, و بـذلك الـزخـم الهـائـل مـن التفـاصيـل الـدافئـة, و العـالقـة في مكان ما بداخلها, وقـد أبـت أن تنـدثـر لسبب ما و فـي نيـتها البقـاء طـويـلا ربمـا إلـى أخـر نـفـس نلفـظـه , أو ربـمـا مـا بـعده..
ما أجمل تـلك التفـاصيـل التـي ميـزت كـل جـميلـة جـمعتنـا مـشاعـر مـوحـدة ذات يـوم مـعاً, والتي اعتقدنا أنها ستدوم حتى بعد موتنا, لكن هذا لم يحدث و لن يحدث حتماً, لحـد الآن لا أزال أشـعـر بنبـرة صـوتهـن داخـلـي كـتفـرقـع حبـات المـطـر فــوق الـتـراب, و ألـتقـط لهـاتهـن المتقـطـع كنـسمـة أضنـاهـا الـرحـيل فـي زقـاق مقطوع, أستحضر نظـراتي الـهـامسة لـبـريـق عيـونهـن المـفعـمة بـالحيـاة, و لمسـاتهـن الرقـيقة كمـداعـبة الغـيـوم للغابات البعيدة الـعـارية, تحضرني مشـيتـهـن العـابثـة أمـامي و بيـن طـيـاتهـا الكـثيـر مـن الأنــوثـة, غـضـبهـن المـزعـوم و ضحـكاتهـن الجـميـلة كـالأميـرات,. كل شيء يعود ببطء و بإيقاع موسيقي حزين و سعيد في الآن ذاته.
أتـساءل مـع نفـسي أحـيانـا, أيـن يمـكن أن يكـن الـآن ؟, و مـا الذي يشغل بالهن في هذه اللحظة ؟, أعـلـم أن ثمة من تزوجـت و هي الآن في أحضان رجل آخر و قـد أحـزنـنـي هذا بشكـل مـا, و أخرى غـادرت المـدينـة صـوب مدينـة أخـرى دون عودة, و أخرى لا تـزال تمـر مـن أمـامـي نتـبـادل التـحـايـا ربما بحـرارة أقـل مـن السـابق, غيـر أن ثمـة ريقا صغيرا لا يبـتلع إلا عنـدما يلـقي كـل مـنا بظـهـره للآخـر..
يُنـزل الليـل ستـائـره ببطـء شديد و متعـمد , المدينـة فـي حـالة سكـون غـير مـألـوف, أعـود إلـى بيـت جـدتي الـذي يسكننـي, وقـد هجـرته قبـل سبـعـة عـشـرة سنـة طفـلا صـغيرا, أغـوص فـي أحشـائي جـدتـي كـفـرخ حمـام انفقـس لـتوه مـن البيـض, أعـود إلـى تـلك الغـرفـة الخضـراء و سـقفها الأبيـض ,و إلى ذلك السـرير الكبيـر الـذي يمـلأ ثـلث الغـرفة, أستـرجع كـل الحكايـات التـي حكتهـا لي جـدتي ذاك الحيـن, و عنـادي كـي تكمـل لـي بقيتهـا بعـدما كـان يسـرقهـا منـي النـوم فـي الليـل, أحـن لسمـاع هـديـر قـنينـة الـغـاز الصغيـرة و جدتي تـغلـي بـعض المـاء فـوقـه لتعد الشـاي و أنـا لا أكـف عـن طـرح أسـئلتـي الغـريبة, ذات يـوم سـألتها عـن هـذا الله الـذي يخـافون منـه جميـعا, و أنا أومـئ لهـا بقـدراتي كـي أهـزمـه, و أحيـانا كنـت أسألها عـن كيـف يسقـط المـطـر, و كـيف يأتي الليـل , و أيـن تـذهب الشمـس بعد المغـيب, و هـل إذا قتـلت سيـسوقني الـشرطي إلـى مخفر الشرطة.. كـانت أسئلة فـي العادة تضـع جـدتي المسكينـة على الحضيض..
يستمر المطـر في التهاطل دون توقـف و ذكـرياتي شـريطـا لا يتـوقف أيضـا, أحـن لأخـي الكبيـر الـذي فـرقتنا الحيـاة طـويلا, فعلى امتـداد ثمـان سنـوات لـم نلتقـي سـوى شهريـن علـى أعلـى تقديـر , كـان الأوحـد الـذي ينصـت لـي و يحـزن لأحـزاني الصغيـرة, كـانت أحـلى سنـوات طفـولتي معـه, أشتـاق له و لعيـنيه الخضـروتين النـاعستين , و إلـى ابتسـامته السـاحرة التـي قلدتهـا طـويلا دون جـدوى, و لعـل أجمـل صـورة فـي ذاكرتـي معـه هـي أثنـاء ذهـابنا معـا إلـى حقـل جـدي البعيـد, و كـانت الغيـوم سـوداء جـدا و كثيفـة تنـذر بأمطـار قـوية, غيـر أن هذا لـم يحـدث و استمتعـت باللعـب معـه و مـع الجـدي الـذي كـان يـربيه , و يبكـي عليـه فـي عيـد الأضحـى, كـانت إحـدى عمـاتي معـنا وسـط الحقـول, و حفـيف السنـابل الخضـراء حينمـا تهـب بعـض الرياح اللطيفـة يتـرك مشـاعر غـريبة جـدا داخـلي, من المحزن حقا أننا لن نعود لذكرياتنا جسدا على الإطلاق..
و المطـر يستمـر فـي التسـاقط و تعـود معـه تأملاتي الباذخـة فـي كـتاب الـقراءة للسنـة الأولى مـن التعـليم الابتدائي, و فـي الرسـومات التـي بـداخلـه وقـد حـلمت مـرارا أنـي بداخلها و أعيـش كـل تلك الأحـداث, و تعـود أيضا رائحـة الكتـب المـدرسية فـي بـدايات كـل موسـم دراسـي و رائحـة المـداد, و رائحـة خشـب قلـم الرصـاص, و رائحـة الممحاة و المحفـظة التـي تعمقـت بداخلـي إلـى حـدود لا يمـكنني سـوى الرضـوخ لهـا كلمـا شممتهـا...

الجمعة، 4 ديسمبر 2015

نشوة الطيبة!

ﻳﺠﺪ ﺍﻟﻄﻴﺒﻴﻦ ﻣﺘﻌﺔ ﻭ ﻧﺸﻮﺓ ﻻ‌ ﺣﺪﻭﺩ ﻟﻬﻤﺎ ﻓﻲ ﺗﻌﺬﻳﺐ ﺃﻧﻔﺴﻬﻢ ، ﻭ ﺍﻟﺘﺸﻈﻲ ﺗﺤﺖ ﻭﻃﺄﺓ ﻋﺬﺍﺏ ﺿﻤﺎﺋﺮﻫﻢ.
ﻳﻌﺘﺮﻱ ﻛﻞ ﺍِﻧﺴﺎﻥ ﻃﻴﺐ ﺷﻌﻮﺭ ﻋﻤﻴﻖ ﺑﺘﺄﻧﻴﺐ ﺍﻟﻀﻤﻴﺮ، ﺷﻌﻮﺭ ﻳﺠﻌﻠﻬﻢ ﺑﻄﺮﻳﻘﺔ ﻋﻔﻮﻳﺔ ﻳﺠﻨﺤﻮﻥ ﻧﺤﻮ ﻓﻌﻞ ﺍﻟﺨﻴﺮ ﻛﻲ ﻳﺸﻌﺮﻭﻥ ﺑﻘﻠﻴﻞ ﻣﻦ ﺍﻟﺮﺿﻰ ﻋﻦ ﺍﻟﺬﺍﺕ، ﻭ ﺣﺘﻤﺎ ﺗﺨﻤﺪ ﻏﻼ‌ﺋﻞ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﺸﻌﻮﺭ ﻟﺒﺮﻫﺔ ﻣﻦ ﺍﻟﺰﻣﻦ ﻭ ﺗﻌﻮﺩ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻔﻮﺭ ﺑﺈﺻﺮﺍﺭ ﻏﺮﻳﺐ.
ﻓﺈﻥ ﺃﺳﻮﺃ ﻣﺎ ﻳﻌﺎﻧﻴﻪ ﺍﻹ‌ﻧﺴﺎﻥ ﺍﻟﻄﻴﺐ ﻫﻮ ﻛﻮﻧﻪ ﻻ‌ ﻳﺪﺭﻙ ﻃﻴﺒﻮﺑﺘﻪ ، ﻟﺬﻟﻚ ﻳﺴﺘﻤﺮ ﻓﻲ ﻓﻌﻞ ﺍﻟﺨﻴﺮ ﺩﻭﻥ ﻛﻠﻞ ﺃﻭ ﻣﻠﻞ.
ﻭ ﻫﺬﺍ ﻳﻀﻌﻨﺎ ﺗﺤﺖ ﺣﻘﻴﻘﺔ ﺍﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ﻣﻘﺮﻓﺔ ﺇﻟﻰ ﺣﺪ ﺑﻌﻴﺪ ، ﻫﻮ ﺃﻥ ﺍﻟﻄﻴﺒﻴﻦ ﺍﻟﻤﻔﺮﻃﻴﻦ ﻓﻲ ﻃﻴﺒﻮﺑﺘﻬﻢ تجد ان ﻓﻌﻞ ﺍﻟﺨﻴﺮ ﻟﺪﻳﻬﻢ ﻟﻴﺲ ﻏﺎﻳﺔ ﻓﻲ ﺫﺍﺗﻪ، ﺑﻘﺪﺭ ﻣﺎ ﻫﻮ ﻏﺎﻳﺔ ﻓﻲ ﺗﺤﻘﻴﻖ ﺗﻮﺍﺯﻧﻬﻢ ﺍﻟﻨﻔﺴﻲ ،ﻭ ﺍﻓﺘﺮﺍﺿﺎ ﺇﺫﺍ ﺣﻘﻖ ﻣﺒﺘﻐﺎﻩ ﻓﺈﻥ ﻧﻈﺮﺗﻪ ﻟﻄﻴﺒﻮﺑﺘﻪ ﺳﺘﻜﻮﻥ ﻣﻐﺎﻳﺮﺓ ﺗﻤﺎﻣﺎ ﻟﻨﻈﺮﺗﻪ ﺍﻷ‌ﻭﻟﻰ ﻟﻬﺎ، ﺑﻞ ﻗﺪ ﻳﺮﻯ ﻣﺪﻯ ﺳﺬﺍﺟﺔ ﺍﻟﻄﻴﺒﻴﻦ ﻭ ﺣﻤﻘﻬﻢ ﻭﺭﺍﺀ ﺗﺤﻘﻴﻖ ﺗﻮﺭﺍﺯﻧﻬﻢ ﺍﻟﻨﻔﺴﻲ..
ﻭ ﻳﻤﻜﻦ ﺍﻟﻘﻮﻝ ﺃﻥ ﺍﻟﻄﻴﺒﻴﻦ ﻓﻲ ﺍﻟﻌﺎﺩﺓ ﻻ‌ ﺗﻐﺮﻳﻬﻢ ﺳﻮﻯ ﺍﻟﻤﺮﺃﺓ ﺍﻟﺤﺰﻳﻨﺔ ﻭ ﺍﻟﻜﺌﻴﺒﺔ ﺃﻭ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﻌﺎﻧﻲ ﻣﻦ ﻧﻘﺺ ﻭﺟﺪﺍﻧﻲ ﻋﻤﻴﻖ ﻣﺘﻌﺪﺩ ﺍﻷ‌ﻭﺟﻪ، ﺃﻭ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﻌﺎﻧﻲ ﻣﻦ ﻓﻘﺪﺍﻧﻬﺎ ﺃﺣﺪ ﺃﻋﻀﺎﺋﻬﺎ، (ﻛﺎﻟﻀﺮﻳﺮﺓ)، ﻳﺤﺐ ﺃﻥ ﻳﺸﻔﻖ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﻭ ﺃﻥ ﻳﻌﻮﺽ ﻟﻬﺎ ﻋﻦ ﻧﻘﺎﺋﺼﻬﺎ، ﻓﺎﻟﻄﻴﺒﻮﻥ ﻻ‌ ﻳﺤﺒﻮﻥ ﻓﻲ ﻛﺜﻴﺮ ﻣﻦ ﺍﻷ‌ﺣﻴﺎﻥ ﺇﻻ‌ ﺷﻔﺎﻗﺔً، ﻫﺆﻻ‌ﺀ ﺍﻟﻄﻴﺒﻴﻦ ﻫﻢ ﻓﻲ ﺍﻵ‌ﻥ ﺫﺍﺗﻪ ﻳﺤﺒﻮﻥ ﺍﻟﻤﺮﺃﺓ ﺍﻟﺴﺎﺩﻳﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﺗُﺴَﻮﺩ ﺣﻴﺎﺗﻬﻢ ﻭ ﺗﻀﻌﻬﻢ ﻋﻠﻰ ﺷﻔﻴﺮ ﺍﻹ‌ﻧﻬﻴﺎﺭ..
ﻭ ﻋﻼ‌ﻭﺓ ﻋﻠﻰ ﻛﻞ ﻫﺬﺍ ﻳﺤﺒﻮﻥ ﺗﻌﺬﻳﺐ ﺃﺣﺒﺎﺋﻬﻢ، ﻳﺤﺒﻮﻥ ﺫﻟﻚ ﺍﻟﻌﺬﺍﺏ ﺍﻟﻠﺬﻳﺬ ﺍﻟﺬﻱ ﻳﺨﻠﻔﻪ ﺣﺰﻥ ﺍﻵ‌ﺧﺮﻳﻦ ﺑﺴﺒﺒﻬﻢ ، ﺛﻢ ﻳﻌﻮﺩﻭﻥ ﻣﻠﺴﻮﻋﻴﻦ ﻟﻄﻠﺐ ﺍﻟﻐﻔﺮﺍﻥ ﻣﻦ ﺃﺣﺒﺎﺋﻬﻢ، ﻓﺎﻟﻄﻴﺒﻮﻥ ﻫﻢ ﺍﻟﻤﺜﺎﻝ ﺍﻟﺤﻲ ﻋﻦ ﺣﺎﻟﺔ ﺍﻟﻤﺎﺯﻭﺳﺎﺩﻳﻴﻦ، ﻭ ﺍﻟﺴﺎﺩﻳﺔ ﻋﻨﺪﻫﻢ ﻓﻘﻂ ﻷ‌ﻧﻬﻤﺎ ﺗﺮﺟﻊ ﻟﻬﻢ ﻣﻦ ﻋﺬﺍﺏ ﺍﻟﻀﻤﻴﺮ ﻣﺎ ﻳﺒﺘﻐﻮﻧﻪ. ﻓﺄﺳﺒﺎﺏ ﺍﻟﻄﻴﺒﻮﺑﺔ ﺍﻟﻤﻔﺮﻃﺔ ﺍﻟﻼ‌ﻋﻘﻼ‌ﻧﻴﺔ ﺗﻌﻮﺩ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺸﻌﻮﺭ ﺍﻟﻌﻤﻴﻖ ﺑﺘﺄﻧﻴﺐ ﺍﻟﻀﻤﻴﺮ ، ﻭ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﺘﺄﻧﻴﺐ ﺣﺴﺐ ﻋﻠﻤﺎﺀ ﺍﻟﻨﻔﺲ ﻳﺮﺟﻊ ﺇﻟﻰ ﻣﺮﺣﻠﺔ ﺍﻟﻄﻔﻮﻟﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﻳﺘﻌﺮﺽ ﻓﻴﻬﺎ ﺍﻟﻄﻔﻞ ﻟﻜﺜﻴﺮ ﻣﻦ ﺍﻟﻨﻘﺪ ﺍﻟﺴﻠﺒﻲ ﺍﻟﻼ‌ﺫﻉ ﻣﻦ ﻃﺮﻑ ﻭﺍﻟﺪﻳﻪ، ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻨﻘﺪ ﺍﻟﺬﻱ ﻳﺄﺗﻲ ﻣﻦ ﺍﻟﺨﺎﺭﺝ ﻳﺘﻄﻮﺭ ﻣﻊ ﺍﻟﺴﻨﻮﺍﺕ ﺣﺘﻰ ﻳﺼﺒﺢ ﻧﻘﺪﺍ ﺩﺍﺧﻠﻴﺎ ﻣﺘﻤﺜﻼً‌ ﻓﻲ ﺍﻟﺸﻌﻮﺭ ﺍﻟﻌﻤﻴﻖ ﺑﺘﺄﻧﻴﺐ ﺍﻟﻀﻤﻴﺮ، ﻫﺬﺍ ﺍﻟﺸﻌﻮﺭ ﻳﻈﻞ ﻣﻼ‌ﺯﻣﺎً ﻟﺤﻴﺎﺓ ﺍﻟﻔﺮﺩ ﻃﻮﺍﻝ ﺳﻨﻴﻦ ﺣﻴﺎﺗﻬﻢ ﺇﻻ‌ ﻧﺴﺐ ﺿﺌﻴﻠﺔ ﺟﺪﺍ منهم  ﺗﺴﺘﻄﻴﻊ ﺍﻹ‌ﻧﻔﻜﺎﻙ ﻣﻨﻪ..
"ﺍﻟﻄﻴﺒﻮﻥ ﻣﻦ ﺯﺍﻭﻳﺔ ﻧﻈﺮ ﺃﺧﺮﻯ"

الأربعاء، 2 ديسمبر 2015

مساء ديميتريو ذات خريف

هي مساءات خريفية تجيء وأخرى تخب في إيقاع مهمل و رتيب ، تنوء فيها أرواحنا من الوجود نحو العدم رويداً رويداً...وتحاصرنا فيها تساؤلات فلسفية لا حصر ، ولا مجيب عنها..
ماذا نفعل في الأرض؟
ما نفعنا هنا أو هناك ؟
هل نجتر ويلات خطيئة آدم ؟
هل نعيش بغية الظفر بجنات الخلود ؟
هل نرضي إلهية الإله ؟
هل يحاول الله دحض نبوءة الملائكة ؟
هل فكرة «الإله» حقيقة أم أسطورة ؟
هل هذة الأديان سماوية فعلاً ؟
وهل.. .. وهل... وهل...
هي مساءات طويلة متشابهة ملتحفة بالمطر، وببردوة المدن الساحلية ...
يحدث فيها أحياناً  أن استقل ميكروباص ، «الباص» لأن المطر بدأ يعزف سيمفونيته الثقيلة ،ولأنه لا شهية لي بالمسير وحيداً على الرصيف .. مطرقاً أتابع تفرعات أفكار سرمدية لا نهاية لها ، أتيه «اضيع» في إحدى تفرعاتها عادةً ، أو أصل إلى حلين متناقضين لفكرة واحدة..
محطة الميكروباص  إسمنتية قديمة ، ومترهلة كسيارة خردة، أنتظر مجيء الباص الذي اعرف جودته سلفاً ،وأعرف ما يحدث داخله أثناء الاِزدحام بالتفصيل الممل.
أجلس وحيداً في مقعد إسمنتي فوقه ثلاثة قطع من الخشب،أضع بجابني حقيبتي اليدوية التي تحوي بداخلها على عشائي لهذا المساء ، وعلى ديوان شعري لشاعرة إيرانية أحببتها قبل عقد من الزمن ولا أزال أحبها (فروغ فرخزاد) « الاسيرة».
سيارات ذاهبات و اِيبات حيث لن أراها ثانية ، منارة وسط حلكة الطريق ، أحبها لما تصدر ذلك الصوت وهي تشرخ مياه المطر من على الإسفلت فوق الرصيف ، أحبها لأنها تذكرني برائحة والدي ، أحبها لانها تحيي ذكرى ذلك الرجل المهيب ،الذي لا يهاب شيئاً و يضرب في الأرض على غير هدى ، يعيش يومه لا أقل ولا أكثر ، ذلك الرجل الذي لم اتعلم منه شيئاً ، أحبها لانها تذكرني بأيام الزمن الجميل ...
يستمر المطر في الهطول باعثاً برسائل مشفرة عن ليلة ماطرة أخرى ، نشيج مياه المطر من فوق قراميد الفيلات الصغيرات ، ومن فوق  أغطية المتاجر  على نحو يبعث بطمأنينة غريبة ،وبدفء لم أشعر به قبلا داخل هذة المدينة .
لطالما أحببت  ذلك الهمس الذي يجيء مع إيقاع النشيج ، بين إرتفاع همسه و وإنخفاضه ، كموسيقى الجاز  حينما الفرونكرباص...
هذا النشيج الذي ياخذني دون استئذان إلى بيت جدتي الذي غادرته منذ ثمانية عشر سنة كاملة ، حينها كنت اجلس باِهتمام وشرود قبالة اِنسياب المطر بين تموجات القصدير ، نحو دلو بلاستيكي أسود ، وضعته جدتي عمداً لأغراض أخرى..
حينها كنت أعيش على إيقاع المطر و حكايات جدتي في ليالي باردة طويلة و كئيبة ،ليالي لم اكن أعي وقتذاك أنها ستكون إحدى أجمل ذكرياتي على الإطلاق ...
يصل الميكروباص،اصعد اليه ، مزدحماً كما كان دائماً ، أتكىء على الزجاج ، بعدما مشطت عيني كل المقاعد الممتلئة ، موسيقى يبثها الراديو عبثاً لماجدة الرومي «كلمات ليست كالكلمات..» مصادفة تدعو إلى الدهشة و التأمل ، أنتشي معها مثلما ينتشي دخان السجائر بين شفاه مخملية ، ومثلما يتصاعد بتثاقل نحو العدم ...
صمت مهيب خيم فجأة ، رجل يناهز السبعين ، يكفف زجاج الميركوباص و يرمي بناظريه نحو الطريق ، فتاة عشرينية تظهر تبرمها من الزحام كل حين ، عبر زفرة أو بنظرة خاطفة نحو ساعة هاتفها .
سائق الباص لا يأبه لأحد ، أصبح آلة بفرط التعود ، بين فينة و أخرى  ينهض شاب  ويعطي مكانه لاِمرأة او فتاة، وهذه الميزة تخص مدن الشمال دون غيرها ،،الحق يقال،، رغم انني لا احب هذة المدن ، ولا أطيق روتينيتها وعبوسة سكانها..
صغيرة ، ببراءة الأطفال تجر حقيبتي من يدي كلما أعدت وضع حزامها على كتفي الأيسر ، وأواجها باِبتسامة تشبه ابتسامة أى رجل حينما يرى طفلة جميلة و شقية .
تنظر نحو عيني مباشرة ، تنبس شفتيها الرقيقتين الصغيرتين  « عمو..» ، لماذا انجذبت إلي وحدي فقط ، ربما لها عم يشبهني يشبهني وهذا ما رجحت ، لكنها اسعدتني ببراءتها وبريق عينيها الخضروتين ، فجاة تشعر بأن ذلك الطفل البعيد يستيقظ بداخلك ، يحثك على الركض ، على القفز دون قيود ، يحثك على الضحك ملء الحياة ،ربما قد تحصر دمعة بمجرد أن يرتعش قلبك بهذاالشعور ...
حملتها عندي وقبلتني دون ان اطلب منها ذلك،  وهذا في حد ذاته إستثناء وتميز سأوجه به نفسي هذة الليلة ، كافأتها بشوكلاتة «سنيكرز» كان  في حقيبتي ، ثم قالت لي : شكراً عمو ،، وذهبت فرحة تُري لوالدتها ما أعطيتها.
وصل المكروباص إلى وجهتي أخيراً ، المطر لا يزال يعزف بسخاء ، نزلت بتثاقل متعمد...
اِعترتني رعشة غريبة فجاة، ورهيبة نوعاً ما و كأنني تركت ذلك الطفل داخل المكروباص ، وكأنني تمنيت أن يستمر الزمان للأبد بجانب تلك الصغيرة ..
يقول غوته..«أيها الزمن توقف، ما أجملك »...ليت الزمان توقف أثناء تلك اللحظة الجميلة ، ليته توقف للأبد..
نظرت نحو نحو المكروباص وهو يسير منارا يكتسح الظلام ، ثم تابعت سيري إلى شقتي التي اِكتريتها بكثير من الحيطة ،المكان الوحيد الذي أرتاح فيه ، المكان الوحيد الذي أشتاق له موازاة مع تلك المدينة التي تختزن عمراً من الذكريات ، أدخل شقتي ، أتهاوى فوق الأريكة ، آه ...ليت الملابس تُنتزع لوحدها، ليت هذا الحذاء يُنتزع لوحده و هذا البنطال أيضاً.
نزعت ملابسي و ارتديت أخرى أريح ، رفعت غشاء النافذة ، لا أعلم كم بقيت شارداً في منظر المطر ينكسر فوق عمود الكهرباء ، يتراقص متثاقلاً كندفات ثلج على ضوء المصابيح ، رشفت بعض أكواب من النبيذ ، لا أدري كم ، لكنها كانت كافية لتجعلني أصل لتلك المرحلة من الصفاء الذهني ومن التصالح مع الذات ، كافية لجعلي أتحمل الحياة على كل حال ...
فكرت في النهوض لأني أعرف تماماً ماذا ينتظرني غداً ، وأنا أهم ناهضاً نظرت بامتغاض من خلف الزجاج إلى عمود الكهرباء ، "اللعنة على مصابيح هذة المدينة ، اللعنة على أضواءها الكئيبة الحمراء التي تثقل النفس وتجثم على القلب ..اللعنة على رطوبة هذه المدينة ..اللعنة على غرفة النوم البعيدة،، اللعنة على المسافات التي تفصلني عن مدينتي الصغيرة ..
اللعنة على "كلمات ليست كالكلمات " لماجدة الرومي ..
اللعنة على نزار القباني نفسه ...اللعنة على خريف من دون خريف من دون خمر ...واللعنة على العشاء "
           ثم غفوت مكاني .

الاثنين، 30 نوفمبر 2015

هذيان ديميتريو تحت زخات المطر

إنها السادسة صباحا.. أضواء الشوارع لا تزال مُنارة كئيبة على نحو مبهم، و بداية اليوم الجديد بدأت تظهر أول معالمه في الأفق الرمادي البعيد. المطر ينهمر منذ منتصف الليل و دقائق، إنه أول مطر السنة، أول العناق بين روحي و بين رذاذ الأنسام داخل رحابة هذا المدى الشاسع. قطرات المطر تتشظى فوق أعمدة الكهرباء كاللؤلؤ، و نشيج الأمطار تنساب من جدران المنازل نحو الشوارع الفارغة، باحثة عن مجرى ما تسلكه. إنها أولى ساعات الصباح، و أولى المرات التي أقود سيارة، أقودها على غير هدى، أقود و فقط.. أشعر بالأدرينالين يتدفق داخلي، مثلما تتدفق مشاعر الحب أثناء لقاء حبيب بعد فراق طويل، إنه شعور بذروة الإمتنان، و الإنتصار على شيء ما.. سياط المطر فوق واجهة الزجاج الأمامي يريح الأعصاب، و يصفي الذهن، و يحرر الروح من بوثقة الوجود، يأخذها إلى عوالم أخرى، و أكوان أخرى بعيدة جدا عن هذا المدى الشاسع، شيء يمكن توصيفه باللاوجود، حيث يتوقف الزمان و صخب المكان، حيث يتساوى كل شيء.. لقد جاء المطر أخيرا إذن، لقد جاء كي يحررني من ذائقة فصل الصيف، جاء كي يحررني من ساعاته الطويلة المضجرة و المفرغة من المعنى. جاء كي يبعث الحياة في هذه الجبال الفارهة، و هذه الوهدان المنبسطة التي قتل فيها فصل الصيف كل ضروب الحياة. لا أدري لماذا وحده المطر يجعلني أكثر تشبتا بالحياة، و أكثر تشبتا بتفاصيلها المملة و غير المملة. لا أدري أي حب عميق أشعر به كلما ترنم المطر بهمساته، و كلما صرخ ملء رحابته، لطالما حسدته على نعمة الصراخ، و على نعمة الإرتطام بالتراب و بالزجاج، و على نعم أخرى كالسقوط من الأعلى إلى الأسفل، و عودته إلى قمته مرة أخرى في مدار العام، ليسقط ثم يعود مرة أخرى، و هكذا في سيزيفية منقطعة النظير.. و حسدته أيصا على الحرية التي يبعثها في هذا المدى الشاسع، و على كل العطاء و الزهو الذي يميزه عن كل ما في الوجود. أ ليس المطر شيئا خارجا عن المألوف ؟، أليس تكسيرا لشيء ما؟ ، قوة جبارة تحيي كل شيء، حتى تلك الأرواح المضمرة في دهاليز العدم ؟، أليس هو منبت الشغف و إكسيره الوحيد ؟، أ ليس هو الذي يخاطب الجانب الدافئ في أعماق الإنسان ؟، أ ليس هو الحنين الجميل للأشياء الهاربة في ثنايا الزمن.. كالحب، كالصداقة، كالطفولة، كالحياة...؟ " لا أثق في إمرأة لا تحب المطر.". أي حنين الآن يستيقظ داخلي كالمارد لمدينة إفتقدتها تشبه حضن ولدتي و دلال جدتي، مدينة تشبه أصوات لعب إخوتي، و قبضة والدي.. مدينة "وزان" تلك الفاتنة كالعروس، التي يحميانها جبلين موغلين في السماء، و كأنهما يحميانها من شيء ما، و كأنهما يحرصان على ذكريات سكانها الطيبين، إنها تلك التي أحن إليها و لو كنت أحتسي الشاي معها كل مساء و صباح. هذه المدينة التي تكتنز حيوات من الذكريات الجميلة و الحزينة معا. هي وحدها من تراودني عن نفسي أثناء هطول المطر، مدينة روحانية لا مجال لمقارنتها بمدينة أخرى، تكره روتينية الفصول، و تتخذ في كل فصل من فصول السنة وجها، و لونا آخر مغايرا لبقية الفصول. في فصل الخريف تكون أكثر المدن كآبة و حكمة كعجوز أتعبتها رحلة الوجود، و في فصل الشتاء تكون لوحة تشكيلية لعروس تتجمل بألوان الطبيعة و رمادية السماء، و في فصل الربيع تكون الأم و الحضن، المحبة و الجميلة، العابقة بشذى الورود و رائحة الليمون، و في فصل الصيف تجود بكل ما جادت به الطبيعة من خيرات. إنها وزان التي كانت قبل وقت قريب مدينة تسحر العيون، و تأسر القلوب، ها هي الآن، كإحدى المدن النائية المهجورة، لا شيء يميزها سوى طبيعتها الأزلية، أما الذي أبدعه النظام فيها يضيق في الصدر، و يسمم الروح.. من اللامنطقي أن مدينة تحوي عددا لابأس به من الشعراء، و من الفنانين، و المثقفين، و عدد مبالغ فيه من المناضلين الأشاوش، لا تملك حديقة واحدة ؟، دون أن يخلق هذا مشكلة لشاعر ما، أو يضيق بصدر فنان، أو يوقظ ثائرة مناضل ؟، و لا أبرئ نفسي من كل هذا الهوان، و هذا الخراب الذي ينخر مدينة سميت ببارس الصغيرة إبان الإستعمار الفرنسي، كما جاءنا في الأثر.. أ ليس أمرا محرجا يضعنا في صورة فظيعة أمام ذواتنا الواهمة ؟، أ لسنا جميعا مجرد غوغائيين كلٌ لديه نظريات و فلسفات و رؤى تخرج المدينة من ترديها، بل تخرج العالم من عبثيته، دون أن يتكلف واحد منا بالدفاع تطبيقا عن نظريته و فلسفته و رؤياه ؟، لماذا و لو واحد منا قام بوقفة إحتجاجية أو ــ على أقل تقدير ــ دعى لأجل فتح الحديقة ؟ و التي ستدخل قريبا سنتها الرابعة من الإغلاق بدعوى الإصلاح.. من المؤسف القول إن النظام نجح فعلا حينما جعل النضال وسيلة من وسائل حب الظهور، و من وسائل التعويض عن فراغ نفسي ما، و نجح حينما جعل
                          .البعض يتخذ من النضال فرصة للوصول لوظيفة حقيرة محقرة، كي ينام بعدها نومة اللحود