الجمعة، 11 ديسمبر 2015

عودة الذكريات

حينـما يتهاطل الـمطـر بغـزارة فـوق قـمم الجـبال الشاهقـة, و فـوق السـهول البعيـدة المنبسطة, يـدب صمـت غـريب داخـل المـنازل فـي الأرجـاء, و لا يظـهر منـها غـير وميـض دافـئ يتسـرب مـن زجـاج النـوافـذ..
حينما تتشظى قطرات المطر فـوق صـومـعات المـساجـد, و فوق عـش اللقـالـق على أعمـدة الكهـربـاء, تـصيـر الشــوارع و الأزقـة فـارغـة مـن أقـدام العـابريـن على نحو يشجـع بالرقص تحت المطر, حينـما تصفر رياح فبراير تـعـود كـل تـلك الـذكـريـات الـجـميلـة بنـكهـة خـاصـة جـدا, و بـذلك الـزخـم الهـائـل مـن التفـاصيـل الـدافئـة, و العـالقـة في مكان ما بداخلها, وقـد أبـت أن تنـدثـر لسبب ما و فـي نيـتها البقـاء طـويـلا ربمـا إلـى أخـر نـفـس نلفـظـه , أو ربـمـا مـا بـعده..
ما أجمل تـلك التفـاصيـل التـي ميـزت كـل جـميلـة جـمعتنـا مـشاعـر مـوحـدة ذات يـوم مـعاً, والتي اعتقدنا أنها ستدوم حتى بعد موتنا, لكن هذا لم يحدث و لن يحدث حتماً, لحـد الآن لا أزال أشـعـر بنبـرة صـوتهـن داخـلـي كـتفـرقـع حبـات المـطـر فــوق الـتـراب, و ألـتقـط لهـاتهـن المتقـطـع كنـسمـة أضنـاهـا الـرحـيل فـي زقـاق مقطوع, أستحضر نظـراتي الـهـامسة لـبـريـق عيـونهـن المـفعـمة بـالحيـاة, و لمسـاتهـن الرقـيقة كمـداعـبة الغـيـوم للغابات البعيدة الـعـارية, تحضرني مشـيتـهـن العـابثـة أمـامي و بيـن طـيـاتهـا الكـثيـر مـن الأنــوثـة, غـضـبهـن المـزعـوم و ضحـكاتهـن الجـميـلة كـالأميـرات,. كل شيء يعود ببطء و بإيقاع موسيقي حزين و سعيد في الآن ذاته.
أتـساءل مـع نفـسي أحـيانـا, أيـن يمـكن أن يكـن الـآن ؟, و مـا الذي يشغل بالهن في هذه اللحظة ؟, أعـلـم أن ثمة من تزوجـت و هي الآن في أحضان رجل آخر و قـد أحـزنـنـي هذا بشكـل مـا, و أخرى غـادرت المـدينـة صـوب مدينـة أخـرى دون عودة, و أخرى لا تـزال تمـر مـن أمـامـي نتـبـادل التـحـايـا ربما بحـرارة أقـل مـن السـابق, غيـر أن ثمـة ريقا صغيرا لا يبـتلع إلا عنـدما يلـقي كـل مـنا بظـهـره للآخـر..
يُنـزل الليـل ستـائـره ببطـء شديد و متعـمد , المدينـة فـي حـالة سكـون غـير مـألـوف, أعـود إلـى بيـت جـدتي الـذي يسكننـي, وقـد هجـرته قبـل سبـعـة عـشـرة سنـة طفـلا صـغيرا, أغـوص فـي أحشـائي جـدتـي كـفـرخ حمـام انفقـس لـتوه مـن البيـض, أعـود إلـى تـلك الغـرفـة الخضـراء و سـقفها الأبيـض ,و إلى ذلك السـرير الكبيـر الـذي يمـلأ ثـلث الغـرفة, أستـرجع كـل الحكايـات التـي حكتهـا لي جـدتي ذاك الحيـن, و عنـادي كـي تكمـل لـي بقيتهـا بعـدما كـان يسـرقهـا منـي النـوم فـي الليـل, أحـن لسمـاع هـديـر قـنينـة الـغـاز الصغيـرة و جدتي تـغلـي بـعض المـاء فـوقـه لتعد الشـاي و أنـا لا أكـف عـن طـرح أسـئلتـي الغـريبة, ذات يـوم سـألتها عـن هـذا الله الـذي يخـافون منـه جميـعا, و أنا أومـئ لهـا بقـدراتي كـي أهـزمـه, و أحيـانا كنـت أسألها عـن كيـف يسقـط المـطـر, و كـيف يأتي الليـل , و أيـن تـذهب الشمـس بعد المغـيب, و هـل إذا قتـلت سيـسوقني الـشرطي إلـى مخفر الشرطة.. كـانت أسئلة فـي العادة تضـع جـدتي المسكينـة على الحضيض..
يستمر المطـر في التهاطل دون توقـف و ذكـرياتي شـريطـا لا يتـوقف أيضـا, أحـن لأخـي الكبيـر الـذي فـرقتنا الحيـاة طـويلا, فعلى امتـداد ثمـان سنـوات لـم نلتقـي سـوى شهريـن علـى أعلـى تقديـر , كـان الأوحـد الـذي ينصـت لـي و يحـزن لأحـزاني الصغيـرة, كـانت أحـلى سنـوات طفـولتي معـه, أشتـاق له و لعيـنيه الخضـروتين النـاعستين , و إلـى ابتسـامته السـاحرة التـي قلدتهـا طـويلا دون جـدوى, و لعـل أجمـل صـورة فـي ذاكرتـي معـه هـي أثنـاء ذهـابنا معـا إلـى حقـل جـدي البعيـد, و كـانت الغيـوم سـوداء جـدا و كثيفـة تنـذر بأمطـار قـوية, غيـر أن هذا لـم يحـدث و استمتعـت باللعـب معـه و مـع الجـدي الـذي كـان يـربيه , و يبكـي عليـه فـي عيـد الأضحـى, كـانت إحـدى عمـاتي معـنا وسـط الحقـول, و حفـيف السنـابل الخضـراء حينمـا تهـب بعـض الرياح اللطيفـة يتـرك مشـاعر غـريبة جـدا داخـلي, من المحزن حقا أننا لن نعود لذكرياتنا جسدا على الإطلاق..
و المطـر يستمـر فـي التسـاقط و تعـود معـه تأملاتي الباذخـة فـي كـتاب الـقراءة للسنـة الأولى مـن التعـليم الابتدائي, و فـي الرسـومات التـي بـداخلـه وقـد حـلمت مـرارا أنـي بداخلها و أعيـش كـل تلك الأحـداث, و تعـود أيضا رائحـة الكتـب المـدرسية فـي بـدايات كـل موسـم دراسـي و رائحـة المـداد, و رائحـة خشـب قلـم الرصـاص, و رائحـة الممحاة و المحفـظة التـي تعمقـت بداخلـي إلـى حـدود لا يمـكنني سـوى الرضـوخ لهـا كلمـا شممتهـا...

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق