الاثنين، 21 ديسمبر 2015

( نهاية سعيدة )


.
.
الحارة تصطك هذا المساء اِصطكاكا غير مألوف..
في راحة المنزل جثة مراهق واهنة ينخرها الرضوض و قد علت سحنته البدوية شحابة قاتمة كقطعة لحم فاسدة.
والدته تنحب بجانب الحائط المهترئ كالثكالى، مستسلمة تماما لواقع الحال و قد سقط حجابها كرد فعل عنيف لنفسية مكلومة.
فقيه الحارة المليء بالتفاهات زمجر قليلا ثم كفكف لحيته السوداء الكثيفة للحظات بيده اليمنى بحكمة رجل صيني عجوز و بعد نحنحة متعالية فوق جثة المراهق قال و عينيه جاحظتين واثقتين: به مس من الجن الهوائي.. 
أخته الصغيرة تراقب بعينيها اللامعتين وسط حلكة المنزل، تركض بين الحين و الآخر نحو المطبخ تحت إمرة الفقيه كأرنب مذعور لتمده بما قد أمر..
نحيب الوالدة الحزين يتعالى مع تعالي الأصوات داخل المنزل، تصفع خديها المترهلتين بأناملها الرقيقة كأصابع غصين شجرة زيتون و نسوة الحارة يربتن فوق كاهلها متأسفات على هذا المصاب الجلل، و هناك من تطوعت ملء طيبتها لتحاول ضمها إلى صدرها عسى أن تهمد قليلا.
أطفال الحارة أَبالِيس أدمية شاردين لأول مرة في هول المنظر، يقفون كأعمدة كهرباء خشبية أكلها السوس ــ سامحني الله ــ ،ماسكين كسرة خبز حافية تشبه بشرتهم الخشنة و يحشو أضافرهم غير المنمقة سواد كان حصيلة عبث لأيام..
المراهق غاثيا على بطنه يفتح عينين البنيتين بصعوبة بالغة، ثم يغط في نوم قصير و القيء يملأ صدر قميصه الباهت، ثم يستيقظ، ليكمل قيئه و يعود مرة أخرى لنومه و هكذا لساعة و نصف...
المساء كئيب ينذر بموت يلوح في الأفق خافضا ستائره على الحارة الهامشية كشبح مظلم كبير..
الأطفال بدؤوا يمسكون والداتهم من طرف بيجامتهن و يدهم الأخرى لا تزال تمسك كسرة الخبز التي شارفت على الانتهاء.
الوالد الأشوس لم يعد بعد من العمل متثاقلا يحمل ككل مساء كيس بلاستيكي أسود و يجر طرف شاربيه بيده الأخرى في انتشاء فحولي مع نظرات نساء الحارة الهامسة لسحنته الفحولية المحترقة و المثيرة للجدل و لأشياء أخرى..
النساء ترتفع أصوتهن مرددات : لأنه يقصد المقهى لساعتين في الغالب بعد العمل، سيعود بعد دقائق، لابد أن يعود.
الضغط يثقل المنزل و الفقيه يضغط على سباب المراهق متمتما يبصق في الأرض و في صدره بجدية لا تثير ضحك أحد حتى الأطفال الذين لا يشبهون الأطفال..
النساء يهمسن لوالدة المراهق في أذنيها المكشوفة: به سحر.. البنات لم يعدن يخفن شيئا في هذا الوقت، اللهم لطفك..
الفقيه لا يأبه لشيء، إنه منهمك في عمله تماما..
الأخت الصغيرة بدأت تبكي لكنها لم تبارح مكانها خشية أن يطلب الفقيه الحكيم شيئا ما و لا يجدها، ثم يرحل تاركا أخاها الوحيد لرحمة العدم.
الوالدة سقطت كميت إثر نوبة صرع، لكنها استيقظت ــ الحمد لله ــ، بعد عشر دقائق، و الدواء كان قفل كبير مغطًّى بالصَّدأ ..
خطوات متثاقلة تطأ أذن الجميع.. : ها قد عاد.. ها قد عاد..
الفقيه لم يأبه لذلك لأنه تيقن أن بالمراهق جن ترابي و ليس هوائي كما ظن..
يقف الوالد بارد الأعصاب مبتسما تقريبا كأنه على علم بما يقع..
الأخت الصغيرة تقبل يده و تأخذ الكيس لمطبخ المنزل لأسباب عديدة منها نظرات أباليسة الحارة للكيس..
الفقيه منغمس يًظهر جلبابه منه فقط بعدما أن وضع قب جلبابه على رأسه، لأن ربما هذه هي الطريقة المثلى لكسب العراك مع الجن الترابي..
نساء الحارة داهشات ينتظرن ما سيفعل الأب..
إنها الثامنة مساء، الأم يقظ ذهنها بعدما كان شاردا في اللاشيء..
ينظر الوالد نظرة خفيفة للمراهق الذي شحب أكثر لقدوم الوالد.. ثم يقول ببرود رجل سقطت أسنانه و اعتراها السوس في الحارة : "ممممممم الهم سكران...".
كان قوله كالبلسم على الجرح.. انفرجت تجاعيد نساء الحارة لهذا النبأ المفرح، و كدن يقلن لوالدة المراهق التي أففت منبسطة "الحمد لله على سلامتك آحبيبة"..
الفقيه الحكيم شعر بالاِحراج، لكنه أصر على وجود سحر ما و ذهب يقول في صدره " ليلة و شمن ليلة هاذي"..
ثم عم الهدوء في المنزل و الحارة، و عاش الجميع سعيدا للأبد..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق